الأحد 28 أبريل 2024
توقيت مصر 18:17 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الصدمة الحضارية الأولى

يصاب المرء بالدهشة  وهو يقارن  بين الحالة الأوروبية عند سقوط اسطنبول على يد السلطان العثماني محمد الثاني (1453) م ، وبين الحالة العربية و المصرية عند دخول الفرنسيين القاهرة (1798)م  ، حين هرع المصريون إلى الأسواق وهم يهتفون في ذهول على وقع أصوات المدافع الفرنسية كما يذكر الجبرتي في تاريخه : "يا سلام من هذه الآلام ، يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف ، وهربوا من كل سوق ، ودخلوا في الشقوق " . حوالي ثلاثمائة سنة بين المشهدين كانت كافية لكي تجري مياه كثيرة في النهر ، وتتغير موازين القوى بين الشرق و الغرب . لكن الشيء المحير هو أن هذه المدافع التي لم يعرفها المصريون ،كانت اختراعا إسلاميا وسلاحا حاسما استخدمته الإمبراطورية العثمانية أثناء حصار اسطنبول و أثناء توسعها في شبه جزيرة البلقان في أوروبا . وقد أشار إلى هذا التفوق العسكري العثماني المؤلف الأمريكي مارشال هودجسون   Marshal G.S.Hodgson  في كتابه مغامرة الإسلام  The Venture of Islam  الذي صدر عام 1975 م بعد وفاته ، والذي يقع في ثلاثة أجزاء ، وقد عنون الجزء الأول بـ العصر الكلاسيكي الإسلامي  The classical age of Islam   ، وكان عنوان الجزء الثاني : التوسع الإسلامي في الفترات الوسطى The expansion of Islam in the Middle Periods ، ثم الجزء الثالث بعنوان إمبراطوريات البارود و الأزمنة الحديثة  The Gunpowder Empires and Modern Times  . و كان يعني ثلاث إمبراطوريات : العثمانية والصفوية والمنغولية . وقد أشار إلى التفوق العسكري الكبير و الفروق الواضحة بين العثمانيين و الأوروبيين الذين لم يعرفوا هذه النوعية من البنادق و المدافع والتي كان لها أثر كبير في حسم معركة اسطنبول . لقد كان العالم الغربي يموج في صراعات مذهبية ولاهوتية ، بينما كان المسلمون يطورون هذا السلاح (البارود) الذي اخترعه الصينيون ثم انتقل إلى العالم الإسلامي الذي استطاع أن يضيف إليه بعضا مما أبدعه العقل الإسلامي في تلك الحقبة . لكن وخلال ثلاثة قرون فقط ، استطاع العقل الغربي بعد الصدمة الحضارية التي أصابته من سقوط اسطنبول واحتكاكه بالحضارة الإسلامية ، استطاع أن يغير موازين القوى لصالحه ، وأن يهاجمه بنفس السلاح مع بعض التغيرات التقنية . و لم يكن صحيحا ما دونه بعض الكتاب العرب في أن الصدمة الحضارية الأولى بين الشرق و الغرب هي التي حدثت مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر ، فالصحيح أن العالم الإسلامي هو الذي أحدث الصدمة الحضارية الأولى على مستويات عدة فكرية و دينية وعلمية و عسكرية ، وهو الذي أوقد شرارة الإصلاح الديني في أوروبا . إن قيام الإمبراطوريات و سقوطها أمر حتمي و سنة تاريخية  لا تتغير ، وقد شهدت القرون الأخيرة صعود الكثير من تلك الإمبراطوريات و أفولها ، لكن الإصرار على تكريس فكرة التفوق الغربي ، والترويج لمشروع  التبعية المطلقة للثقافة والحضارة الغربية و إشاعة الهزيمة النفسية أمر يتناقض مع السنن الكونية في التدافع الإيجابي والذي يؤدي إلى إبداع وتطور الفكر البشري . إن الرهان الآن على الأجيال الجديدة التي يتشكل لديها وعي مغاير بوجوب أن يستعيد العقل العربي مكانه اللائق في هذا العالم ، وهذا يفسر كثيرا من غضب الشباب العربي ضد الأنظمة الحاكمة التي استسهلت و استسلمت لفكرة التبعية . وعل الرغم من كل هذه الاضطرابات و الفوضى ، فالمؤكد أن العالم العربي سيسعى إلى تغيير قواعد اللعبة ، فهذه هي سنن التاريخ.