الثلاثاء 30 أبريل 2024
توقيت مصر 03:59 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

نجيب باشا محفوظ..أتيت ولكنى لم أصل (1-2)

لو أن مسلما رأى أية من (القرآن الكريم) مكتوبة فى مكان لا يليق بجلالها وثار وأعترض..لما كان هناك عجب فطبيعى أن يفعل ذلك لأنه يؤمن بها أولا ويعلم أن المسلم الحق لابد له من تعظيم وتقديس وإجلال وصون كل ما يتصل بدينه ثانيا .. ليس تعصبا وتطرفا ولكن تعظيما وتوقيرا..لكن العجب أن يصدر هذا الأعتراض من(مسيحى).. وأين.. ؟ فى بيت للمومسات!!.                                                                     

وهذا ما كان من أسطورة الطب المصرى فى القرن العشرين (نجيب باشا محفوظ) رائد طب النساء والتوليد فى مصر والعالم كله(1882-1974م) .. فيحكى لنا هذا الرجل العظيم فى مذكراته(حياة طبيب) التى نشرت سنة سنة1966 وأعيد طبعها سنة2013م (مكتبة الأسرة) ..يحكى لما أنه فى بداية حياته المهنية عمل فى (مكتب صحة )باب الشعرية ..وتلقى أمرا فى أحد الأيام من(مصلحة الصحة) بأن يقوم بمعاينة محل(بوظة) قبل منح الترخيص له.. وكان المحل فى حى(.....)وهو المكان المرخص رسميا لعمل(المومسات) فى منطقة باب الشعرية ويصف تلقيه لهذا الأمر قائلا( شعرت بأشد أنواع الإشمئزازلاضطرارى دخول هذا الحى الفاسد المهين).. ويذهب ومعه (كاتب الصحة) الذى يبدو أنه قام بهذه المهمة مرات كثيرة من قبل ..  

**** 

أنه كان فى استقبالهما رجلان من(وسطاء السوء) ..وأنبرى أحدهما قائلا: يجب مقابلة الست (العايقة) أولا لتتم المعاينة بحضورها ..والعايقة كما يقول لنا د/محفوظ هى (رئيسة المومسات) وكلمة(مومس) كلمة عربية وتعنى الفجر والعهر وما الى ذلك وكانت تستخدم فى المكاتبات الرسمية فى وزارتى الصحة والداخلية وقتها .. وذهب إليها د/محفوظ فوجد مكتوبا على باب غرفتها (آية من القرآن الكريم) لن أذكرها هنا  لتحرجى فى ذلك (ص 109 من المذكرات) وبدأ الرجل فى القيام بعمله..  فوجد دولابا مغلق ومكتوب عليه أيضا (آية من القرأن الكريم)..وتوقع أن يكون به مخدرات وأفيون وطلب فتحه فرفضت(العايقة)وطلبت إذن النيابة وكانت هذه هى التعليمات القانونية بالفعل كما قال كاتب الصحة(النحرير الشهم)  ..  

فأنهى الدكتور محفوظ معاينته و نبهها الى رفضه لكتابة(الأيات القرآنية)على باب غرفتها أو على الدولاب وأنصرف معبأ بأكبر قدر من النفور والتقزز .. فحكت هى بعدها لأحد مفتشى الصحة أنها خافت منه وقالت له حاضر ..ليس هذا فقط بل كتب فى تقريره استيائه من كتابة الأيات القرانية فى هذا المكان الفاسد..مفتش الصحة الذى جاء بعده.. ذهب إليه بعد اشتهاره يطلب خدمة وحكى له هذه الحكاية .. 

**** 

الرجل مسيحى ..وطبيب يقوم بمطابقة المعايير الصحية على محل بوظة فى قلب مكان يغص بأهل السوء والشروالأذى ..ولا علاقة له أصلا (مهنيا ودينيا) بكتابة آيات قرآنية.. ومع ذلك وبكل شرف وشجاعة ونبل وطهر وسمو ووفاء وحب.. ينبه من فى المكان إلى هذا الخطأ ويصرعلى كتابته فى التقرير ..  

هذه الحادثة كانت سنة (1904م) بعد تخرجه بعامين وكان الانجليز قد بدأوا فى تنفيذ مشاريعهم الادارية فى عموم القطر المصرى ومنها الترخيص بالبغاء .. وكان يحكم البلاد وقتها الخديوى عباس حلمى الثانى(1874-1944م)..و كان اللورد كرومر(1841 -1917م) المندوب السامى..وهو أسوأ وأخطر من شغل هذا المنصب  ولمدة 15سنة حتى 1906م وكان لديه خطة عمل كاملة وواضحة لترسيخ الهيمنة البريطانية التامة على هذا الوطن .. وكانت البلاد مهزومة ومحتلة ومنحلةوتعيش حالة تأزم عام..وكل من قرأ تاريخ مصر الحديث يعرف كيف كانت الفترة من(1882 – 1919م) .. عليك إذن أن تتخيل ما هى التركيبة الشخصية التى كان عليها صاحبنا وسط هذه المعمعة المتمعمعة الشاملة ..ليصدر منه هذا الموقف ؟ وأكرر.. وهو المسيحى وحضوره فى هذا الموقف مهنى بحت لا علاقة له بالنصح والأخلاق ..وإلا ففى مكان أخر ومع واحدة ثانية فى الحقيقة غير الست (العايقة) .    

**** 

عليك أن تستعد لمعرفة ما هو مثل ذلك.. وما هو أكثر من ذلك.. لرجل عاش حياته طولا وعرضا بهذه القيم وبهذه القوة وبهذا النجاح الذى قابله فى كل خطوة خطتها قدماه فى سيرة حياته التى بألف حياة والتى ستمتد حتى عام 1974م..فلا عجب إذن أن يصدر من(نجيب ميخائيل محفوظ )هذا الموقف ..كان الرجل يعيش حياته وأفكاره فى خط واحد بلا التواء ولا تلاعب ..صدق واستقامة. 

أنا شخصيا دمعت عينى وأنا أقرأ فى هذا الجزء من المذكرات وتمنيت لو استطع تقبيل رأسه على هذه الوقفة الكبيرة لهذا الرجل الكبير.. وعلى كل هذا النبل والسمو وكل هذا الاعتزاز بشخصه وعلمه ودينه وحضارته العربية الاسلامية والتى يمثل(القرآن الكريم) فيها النص المؤسس الذى تكونت حوله دوائرالثقافة العربية و الإسلامية..وللعلم كان الرجل موسوعى ومذكراته نص أدبى غاية فى الإمتاع كما قال د/طه حسين فى تقديمه لها. 

**** 

سيكون علينا هنا أن نتعاتب بحدة مع كل من يفعل فعل الست(العايقة) مع اختلاف الحال بالطبع ..بل انى أشعر بنفس الاشمئزاز _فى هذه الأيام _الذى شعر به العلامة د/محفوظ  فى باب الشعرية سنة 1905م ...ولكن هذه المرة حين اسمع (لفظ الجلالة) سبحانه وتعالى علوا كبيرا.. فى الأغانى والرقص وتلك المساخر المسخورة .. ولا أدرى أضاقت الدنيا بأوصاف خيباتهم ..ولم يجدوا إلا (الإسم المفرد) للخالق العظيم ..(الله) الإسم الذى يطلق على الذات والصفات جميعا.. ولا أدرى حقيقة لماذا تسكت الهيئات العلمية والدينية على هذه الأفعال التى تجعلك تشمئز فعلا كما اشمئز الدكتور محفوظ ؟بل وتفعل أشياء أخرى أكثر من الإشمئزاز. 

**** 

الموقف الثانى الذى سيلفت نظرك فى سمات هذا الرجل هو المبادئة والإقدام والشجاعة والقوة والثقة التامة بصحة ما يقوله ويفعله ..أنت بالفعل أمام كيان كبير للغاية ..قوى العزيمة على الشىء الذى يرى أنه ينبغى عليه عمله.. ولو أن هذا الرجل كان قد قُدر له أن يأتى فى هذا الزمن لكان عظماء أطبائنا الأن فى مصر وخارج مصر بالنسبة إليه ليسوا إلا تلاميذ التلاميذ .. 

ليس سوى التجربة امتحان لصدق ما نقوله .. سنة 1902 م سينتشر فى مصر وباء (الكوليرا)فى قرية بأسيوط (موشا) وسيتم تجنيد طلبة مدرسة الطب المصريين للمساهمة في مكافحة الوباء ..وللمصرييين مع الكوليرا تاريخ لا يُنسى  فأكثر من 500,000 مصرى ماتوا من الكوليرا خلال الربع الأول من القرن العشرين كما تقول الاحصاءات ...الوباء ظهر1883م و ثانية سنة 1895 م وثالثة سنة 1902م وكان للدكتور على باشا ابراهيم (1880 -1947م)أول وزير صحة مصرى ورائد الجراحة العالمى ..كان له دور كبير ايضا وقتها فى مكافحة الوباء وكان يسبق د/محفوط بعامين ..وقال شوقى وقتها قصيدة أليمة عن مصيبة المصريين من الكوليرا ..قال فيها :خمسونَ الفا في المدائن/ صادهم شِركُ الردى في ليلة ونهار/ ذهبوا ..فليت ذهابهم لعظيمة/ مرموقة في العصر أو افخار... 

**** 

كان دور الدكتورنجيب محفوظ وقتها هو الكشف عن الحالات الواردة إلى القاهرة من خلال محطة السكة الحديد الرئيسية لكنه لم يرض عن هذا العمل المتواضع فى هذه الجائحة..إنها المشاعر الصادقة التى تتملكنا وتسير بنا فى درب الخلاص..  وطلب الذهاب إلى (موشا) وذهب على ظهر حمار فى الحر الشديد إلى القرية المنكوبة ..وتمكن بعد جهد شاق من إكتشاف البئر التى كانت مصدر الوباء فى بيت أحد الفلاحين .. وأعطته (موشا) كما يقول أول خطوات نجاحه  ليٌنتدب بعد (موشا) فى عدة أماكن أخرى لا يزال بها خطر الكوليرا (ديروط و حلوان ثم الإسكندرية) وليحضر فى الإسكندرية عملية ولادة متعثرة إنتهت بموت الأم و الجنين.. ولتكون تلك الحادثة أهم منعطف فى حياته.. إذ ستغير مسار حياته بأكملها..كان الرجل موعود بمصير مجيد ..وصار إليه. 

**** 

فى هذا الجزء من المقال سيكون علينا بالطبع أن نعرف أن الأستاذ نجيب محفوظ(1911 -2006م) الروائى الكبير وصاحب نوبل يحمل الاسم المركب للدكتور محفوظ ..فوالده اسمه عبد العزيز وما حدث هو أن والدة الأديب نجيب محفوظ  تعسرت فى ولادته وفى ذلك الوقت كانت القابلة(الداية) هى من تقوم بالولادة ولكن مع الخوف من فقدان الجنين ذهب الأب الى الدكتور(نجيب محفوظ)بعد منتصف الليل يرجوه أن يأتى معه لإنقاذ الأم والجنين وبالفعل يفى بالوعد الذى قطعه على نفسه أمام الله فى ألا يرد من يأتيه فى ولادة متعسرة بالليل أو بالنهار ..ويذهب مع الأب(عبد العزيز ابراهيم)بنفسه  إلى حى الجمالية وبعد وقت طويل من المحاولات تمت الولادة بسلام .. ومن شدة فرحة العائلة إستأذنوه فى تسمية الطفل بإسمه وقد كان .. ليصبح إسم المولود(نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم الباشا). 

**** 

ولد (د. نجيب ميخائيل محفوظ )فى 5 يناير 1882م بالمنصورة ..وكان والده من كبار الأعيان(ويستحق الاشارة إلى صفاته وأخلاقه التى ورثها الإبن النجيب) وتلقى تعليمه الأولى فى المنصورة وبعد وفاة والده ووالدته ذهب مع شقيقه إلى القاهرة وألتحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية  وحصل على البكالوريا فى 3 سنوات بدلا من 5 سنوات ثم ألتحق بمدرسة الطب عام 1898م. 

لكن هذا لم يكن كل شىء ..فليس فقط موقف الست(العايقة) فى حى المومسات وموقفه العظيم هناك..وليس فقط قرية(موشا)و موقفه البطولى يوم ذاك .. حياة الرجل جبال وتلال من المواقف البارزة التى تفرد لها الصفحات وجعلت لحياته كل هذا المعنى الذى كان لها..وما أحوجنا وأحوج ذاكرة المصريين لمثل هذه الرموز الضخمة التى قامت عليها قوة مصر الحقيقية فى الحقبة الزاهية(1920- 1950م).... ونكمل.